الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: رسالة في القضاء والقدر **
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً فبلٌغ الرسالة وأدى الأمانة ، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد أيها الإخوة الكرام : إننا في هذا اللقاء الذي نرجو أن يفتح الله علينا فيه من خزائن فضله ورحمته وأن يجعلنا من الهداة المهتدين ومن القادة المصلحين ومن المستمعين ، المنتفعين ، نبحث في أمر مهم يهم جميع المسلمين ألا وهو "قضاء الله وقدره" والأمر ولله الحمد واضح، ولولا أن التساؤلات قد كثرت ولولا أن الأمر اشتبه على كثير من الناس، ولولا كثرة من خاض في الموضوع بالحق تارة وبالباطل تارات ونظرا إلى أن الأهواء انتشرت وكثرت وصار الفاسق يريد أن يبرر لفسقه بالقضاء والقدر ، ولولا هذا وغيره ما كنا نتكلم في هذا الأمر . والقضاء والقدر ما زال النزاع فيه بين الأمة قديما وحديثا فقد روي ولكن فتح الله على عباده المؤمنين السلف الصالح الذين سلكوا طريق العدل فيما علموا وفيما قالوا وذلك أن قضاء الله تعالى وقدره من ربوبيته سبحانه وتعالى لخلقه فهو داخل في أحد أقسام التوحيد الثلاثة التي قسم أهل العلم إليها توحيد الله عز وجل : القسم الأول : توحيد الألوهية ، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة . القسم الثاني : توحيد الربوبية وهو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير . القسم الثالث : توحيد الأسماء والصفات ، وهو توحيد الله تعالى بأسمائه وصفاته . فالإيمان بالقدر هو من ربوبية الله عز وجل ؛ ولهذا قال الأمام أحمد رحمه الله تعالى : القدر قدرة الله لأنه من قدرته ومن عمومها بلا شك وهو أيضا سرٌ الله تعالى المكتوم الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى مكتوب في اللوح المحفوظ في الكتاب المكنون الذي لا يطٌلع عليه أحد ونحن لا نعلم بما قدٌره الله تعالى في مخلوقاته إلا بعد وقوعه أو الخبر الصادق عنه. أيها الإخوة : إن الأمة الإسلامية انقسمت في القدر إلى ثلاثة أقسام : القسم الأول : غلوا في إثبات القدر وسلبوا العبد قدرته واختياره وقالوا : إن العبد ليس له قدرة ولا اختيار وإنما هو مسير لا مخير كالشجرة في مهب الريح ، ولم يفرقوا بين العبد الواقع باختياره وبين فعله الواقع بغير اختياره . ولا شك أن هؤلاء ضالون لأنه مما يعلم بالضرورة من الدين والعقل والعادة أن الإنسان يفرق بين الفعل الاختياري والفعل الإجباري. القسم الثاني : غلوا في إثبات قدرة العبد واختياره حتى نفوا أن يكون الله تعالى مشيئة أو اختيار أو خلق فيما يفعله العبد وزعموا أن العبد مستقل بعمله حتى غلا طائفة منهم فقالوا إن الله تعالى لا يعلم بما يفعله العباد إلا بعد أن يقع منهم وهؤلاء أيضا غلوا وتطرفوا تطرفا عظيما في إثبات قدرة العبد واختياره . القسم الثالث : وهم الذين آمنوا فهداهم الله لما اختلف فيه من الحق وهم أهل السنة والجماعة سلكوا في ذلك مسلكاً وسطاً قائماً على الدليل الشرعي وعلى الدليل العقلي وقالوا إن الأفعال التي يحدثها الله تعالى في الكون تنقسم إلى قسمين : القسم الأول : ما يجريه الله تبارك وتعالى من فعله في مخلوقاته فهذا لا اختيار لأحد فيه كإنزال المطر وإنبات الزرع والإحياء والإماتة والمرض والصحة وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي تشاهد في مخلوقات الله تعالى وهذه بلا شك ليس لأحد فيها اختيار وليس لأحد فيها مشيئة فالمشيئة فيها لله الواحد القهار . القسم الثاني: ما تفعله الخلائق كلها من ذوات الإرادة فهذه الأفعال تكون باختيار فاعليها وإرادتهم لأن الله تعالى جعل ذلك إليهم قال الله تعالى : وكذلك الإنسان يعرف أنه إذا أصيب بمرض سلس البول فالبول يخرج منه بغير اختياره وإذا كان سليما من هذا المرض فإن البول يخرج منه باختياره . ويعرف الفرق بين هذا وهذا ولا أحد ينكر الفرق بينهما . وهكذا جميع ما يقع من العبد يعرف فيه الفرق بين ما يقع اختياراً وبين ما يقع اضطراراً وإجباراً بل إن من رحمة الله عز وجل أن من الأفعال ما هو باختيار العبد ولكن لا يلحقه كما في فعل الناسي والنائم ويقول الله تعالى في قصة أصحاب الكهف : فنسب هذا الإطعام وهذا الإسقاء إلى الله عز وجل لأن الفعل وقع منه بغير ذكر فكأنه صار بغير اختياره وكلنا يعرف الفرق بين ما يجده الإنسان من ألم بغير اختياره وما يجده من خيفة في نفسه أحياناً بغير اختياره ولا يدري ما سببه وبين أن يكون الألم هذا ناشئاً من فعل الذي اكتسبه أو الفرح ناشئاً من شيء هو الذي اكتسبه وهذا الأمر ولله الحمد واضح لا غبار عليه .
أيها الإخوة : إننا لو قلنا بقول الفريق الأول الذين غلوا في إثبات القدر لبطلت الشريعة من أصلها لأن القول بأن فعل العبد ليس له فيه اختيار يلزم من أن لا يحمد على فعل محمود ولا يلام على فعل مذموم لأنه في الحقيقة بغير اختيار وإرادة منه وعلى هذا فالنتيجة إذن أن الله تبارك وتعالى يكون - تعالى عن ذلك علواً كبيراً - ظالما لمن عصى إذا عذبه وعاقبه على معصيته ، لأنه عاقبه على أمر لا اختيار له فيه ولا إرادة وهذا بلا شك مخالف للقرآن صراحة، يقول الله تبارك وتعالى : فبين سبحانه أن هذا العقاب منه ليس ظلما بل هو كمال العدل لأنه قد قدم إليهم بالوعيد وبين لهم الطرق وبين لهم الحق وبين لهم الباطل ولكنهم اختاروا لأنفسهم أن يسلكوا طريق الباطل فلم يبق لهم حجة عند الله تعالى : أما أصحاب القول الثاني فإنهم أيضا ترد عليهم النصوص والواقع ذلك لأن النصوص صريحة في أن مشيئة الإنسان تابعة لمشيئة الله عز وجل والذين يقولون بهذا القول هم في الحقيقة مبطلون لجانب من جوانب الربوبية وهم أيضا مدعون بأن في ملك الله تعالى ما لا يشاء ولا يخلقه والله تبارك وتعالى شاء لكل شيء خالق لكل شيء مقدر لكل شيء وهم أيضا مخالفون لما يعلم بالاضطرار من أن الخلق كله ملك لله عز وجل ذواته وصفاته لا فرق بين الصفة والذات ولا بين المعنى وبين الجسد إذن فالكل لله عز وجل ولا يمكن أن يكون في ملكه ما لا يريد تبارك وتعالى لكن يبقى علينا إذا كان الآمر راجعا إلى مشيئة الله تبارك وتعالى وأن الأمر كله بيده فما طريق الإنسان إذن وما حيلة الإنسان إذا كان الله تعالى قد قدر عليه أن يضل ولا يهتدي ؟ فنقول الجواب عن ذلك أن الله تبارك وتعالى إنما يهدي من كان أهلاً للهداية ، ويضل من كان أهلاً للضلالة ، ويقول الله تبارك وتعالى: فبين الله تبارك أن أسباب إضلاله لمن ضل إنما هو بسبب من العبد نفسه ، والعبد كما أسلفنا آنفاً لا يدري ما قدر الله تعالى له ، لأنه لا يعلم بالقدر إلا بعد وقوع المقدور . فهو لا يدري هل قدر الله له أن يكون ضالا أم أن يكون مهتديا ؟ فما باله يسلك طريق الضلال ثم يحتج بأن الله تعالى قد أراد له ذلك أفلا يجدر به أن يسلك طريق الهداية ثم يقول إن الله تعالى قد هداني للصراط المستقيم ؟ أيجدر به أن يكون جبريا عند الضلالة وقدريا عند الطاعة كلا لا يليق بالإنسان أن يكون جبريا عند الضلالة والمعصية فإذا ضل أو عصى الله قال هذا أمر قد كتب علي وقدر علي ولا يمكنني أن أخرج عما قضى الله تعالى للطاعة والهداية زعم أن ذلك منه ثم منَّ به على الله وقال أنا أتيت به من عند نفسي فيكون قدريا في جانب الطاعة جبريا في جانب المعصية هذا لا يمكن أبداً فالإنسان في الحقيقة له قدرة وله اختيار وليس باب الهداية بأخفى من باب الرزق وأخفى من أبواب طلب العلم . والإنسان كما هو معلوم لدى الجميع قد قدر له ما قدر من الرزق ومع ذلك هو يسعى في أسباب الرزق في بلده وخارج بلده يميناً وشمالاً لا يجلس في بيته ويقول إن قدر لي رزق فإنه يأتيني ، بل يسعى في أسباب الزرق مع أن الرزق نفسه مقرون بالعمل كما ثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن مسعود رضي الله عنه إن البابين واحد ليس بينهما فرق فكما أنك تسعى لرزقك وتسعى لحياتك وامتداد أجلك ، فإذا مرضت بمرض ذهبت إلى أقطار الدنيا تريد الطبيب الماهر الذي يداوي مرضك ومع ذلك فإن لك ما قدر من الأجل لا يزيد ولا ينقص ، ولست تعتمد على هذا وتقول أبقى في بيتي مريضاً طريحاً وإن قدر الله لي أن يمتد الأجل امتد ، بل نجدك تسعى بكل ما تستطيع من قوة وبحث لتبحث عن الطبيب الذي ترى أنه أقرب الناس إن يقدر الله الشفاء على يديه فلماذا لا يكون عملك في طريق الآخرة وفى العمل الصالح كطريقك فيما تعمل للدنيا ؟ وقد سبق أن قلنا إن القضاء سر مكتوم لا يمكن أن تعلم عنه فأنت الآن بين طريقين طريق يؤدي بك إلى السلامة وإلى الفوز والسعادة والكرامة وطريق يؤدي بك إلى الهلاك والندامة والمهانة وأنت الآن واقف بينهما ومخير ليس أمامك من يمنعك من سلوك طريق اليمين ولا من سلوك طريق الشمال إذا شئت ذهبت إلى هذا وإذا شئت ذهبت إلى هذا فما بالك تسلك الطريق الشمال ثم تقول أنا قدر علي أفلا يليق بك أن تسلك طريق اليمين وتقول إنه قُدِّر لي فلو أنك أردت السفر إلى بلد ما كان أمامك طريقان إحداهما معبد قصير آمن والآخر غير معبد وطويل ومخوف لوجدنا أنك تختار المعبد القصير الآمن ولا تذهب إلى الطريق الذي ليس بمعبد وليس بقصير وليس بآمن هذا في الطريق الحسي إذن فالطريق المعنوي مواز له ولا يختلف عنه أبداً ولكن النفوس والأهواء هي التي تتحكم أحياناً في العقل وتغلب على العقل والمؤمن ينبغي أن يكون عقله غالبا على هواه وإذا حكم عقله فالعقل بالمعنى الصحيح يعقل صاحبه عما يضره ويدخله فيما ينفعه ويسره . بهذا تبين لنا أن الإنسان يسير في عمله الاختياري سيراً اختيارياً وأنه كما يسير لعمل دنياه سيراً اختيارياً وهو إن شاء جعل هذه السلعة أو تلك تجارته ، فكذلك أيضا هو في سيره إلى الآخرة يسير سيراً اختيارياً ، بل إن طرق الآخرة أبين بكثير من طرق الدنيا لأن الذي بين طرق الآخرة هو الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . فلا بد أن يكون طرق الآخرة أكثر بيانا أجلى وضوحا من طرق الدنيا . ومع ذلك فإن الإنسان يسير في طرق الدنيا التي ليس ضامنا لنتائجها ولكنه يدع طرق الآخرة التي نتائجها مضمونة معلومة لأنها ثابتة بوعد الله والله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد . بعد هذا نقول : إن أهل السنة والجماعة قرروا هذا وجعلوا عقيدتهم ومذهبهم أن الإنسان يفعل باختياره وأنه يقول كما يريد ولكن إرادته واختياره تابعان لإرادة الله تبارك وتعالى ومشيئته ثم يؤمن أهل السنة والجماعة بأن مشيئة الله تعالى تابعة لحكمته وأنه سبحانه وتعالى ليس مشيئته مطلقة مجردة ولكنها مشيئة تابعة لحكمته لأن من أسماء الله تعالى الحكيم والحكيم هو الحاكم المحكم الذي يحكم الأشياء كوناً وشرعاً ويحكمها عملاً صنعاً والله تعالى بحكمته يقدر الهداية لمن أرادها لمن يعلم سبحانه وتعالى أنه يريد الحق وأن قلبه على الاستقامة ويقدر الضلالة لمن لم يكن كذلك لمن إذا عرض عليه الإسلام يضيف صدره كأنما يصعد في السماء فإن حكمة الله تبارك وتعالى تأبى أن يكون هذا من المهتدين إلا أن يجدد الله له عزماً ويقلب إرادته إلى إرادة أخرى والله تعالى على كل شيء قدير ولكن حكمة الله تأبى إلا أن تكون الأسباب مربوطة بها مسبباتها .
أربع مراتب : ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما نعمله أشيء مستقبل أم شيء قد قضي وفرغ منه ؟ قال فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل فأنت يا أخي اعمل وأنت ميسر لما خلقت له . ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : فبين الله تعالى أن فعل الناس كائن بمشيئته وأما فعله تعالى فكثير قال تعالى أحدهما : القدرة والثاني : الإرادة فإذا كان فعل العبد ناتجا عن إرادته وقدرته فإن الذي خلق هذه الإرادة وجعل قلب الإنسان قابلاً للإرادة هو الله عز وجل وكذلك الذي خلق فيه القدرة هو الله عز وجل وكذلك الذي خلق فيه القدرة هو الله عز وجل ويخلق السبب التام الذي يتولد عنه المسبب نقول إن خالق السبب التام خالق المسبب أي أن خالق المؤثر خالق للأثر فوجه كونه تعالى خالقا لفعل العبد أن نقول فعل العبد وقوله ناتج عن أمرين هما : 1- الإرادة 2- القدرة فلولا الإرادة لم يفعل ولولا القدرة لم يفعل لأنه إذا أراد وهو عاجز لم يفعل وإذا كان قادرا ولم يرد لم يكن الفعل فإذا كان الفعل ناتجا عن إرادة جازمة وقدرة كاملة فالذي خلق الإرادة الجازمة والقدرة الكاملة هو الله وبهذا الطريق عرفنا كيف يمكن أن نقول إن الله تعالى خالق لفعل العبد وإلا فالعبد فهو الفاعل في الحقيقة فهو المتطهر وهو المصلي وهو المزكي وهو الصائم وهو الحاج وهو المعتمر وهو العاصي وهو المطيع لكن هذه الأفعال كلها كانت ووجدت بإرادة وقدرة مخلوقين لله عز وجل والأمر ولله الحمد واضح . وهذه المراتب الأربع المتقدمة يجب أن تثبت لله عز وجل وهذا لا ينافي أن يضاف الفعل إلى فاعله من ذوى الإرادة . كما نقول النار تحرق والذي خلق الإحراق فيها هو الله تعالى بلا شك فليست محرقة بطبيعتها بل هي محرقة بكون الله تعالى جعلها محرقة ولهذا لم تكن النار التي ألقي فيها إبراهيم محرقة لأن الله قال لها وأخيرا نقول : على المؤمن أن يرضى بالله تعالى رباٌ ومن تمام رضاه بالربوبية أن يؤمن بقضاء الله وقدره ويعلم أنه لا فرق في هذا بين الأعمال التي يعملها وبين الأرزاق التي يسعى لها وبين الآجال التي يدافعها ، الكل بابه سواء والكل مكتوب والكل مقدر وكل إنسان ميسر لما خلق الله . أسال الله عز وجل أن يجعلنا ممن ييسرون لعمل أهل السعادة وأن يكتب لنا الصلاح في الدنيا والآخرة والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وأصحابه أجمعين.
|